السبت، 5 يوليو 2014

يدٌ مِن نَار || قصة قصيرة*


استيقظ أخيراً من غفلته , وها هو يغسل وجهه بماء الواقع و الندم , ليمحو معالم الخداع و يزيل مساحيق الزيف و الكذب ، الذي وضعها له أولئك المنافقون ، ها هو ذا ينفض غبار التخلف من على وجهه ذو المعالم الشقية التي اختفت منها ملامح السماحه ، بهدوء تام وفي حالة ذهول مثير للقشعريرة ، تقدم "فيصل" نحو خزانته و اختار ثوباً ذا لونٍ قاتم ، و ارتداه بهدوءٍ مريب ، وحدق في المراءة لبرهة ثم خرج من شقته ، بوجهه الشاحب  و عينين جاحظتين .


رغم صغر سنه إلى أن لحية ذقنه التي لم يحلقها منذ أيام ، ومعالم وجهه المصعوقة  من حادثة البارحة ، أظهرته كرجل أربعينيّ ، كـكهلٍ عقه أبنائه  في قارعة الطريق .  البرد ينهش عظامه ولكنه لم يعد يشعر !! وكيف له أن يشعر بعد الجريمة التي ساعد في ارتكابها ، ماذا يفعل ؟ أين المناص ؟ أين المفر ؟ ها هو اليوم يدرك الحقيقة التي قد عميت عينيه عنها !! . أنه اليوم مجرم !، و بالأمس مجرم ! ، وما قبله مجرم ! لكن ماذا عن الغد ؟ هل سيظل يرتكب جرائمه طوال حياته ؟ هل سيساعد في نشر الفساد وتشويه صورة الدين ، لحساب أولئك الذين يريدون تدمير الوحدة الإسلامية ؟! ، فيصل اليوم ينزف ! فحادثة الأمس جرحته جرحاً  بليغاً ، بل  وعذبته عذاباً شديداً !! . كان يشعر بأن غرفته هي قبره وكأنه يشعر بما يمر به صديقه الذي جازف بحياته ورمى بنفسه إلى التهلكة ، وقتل معه عمداً عشرات الأبرياء .


الشارع باردٌ جداً مازالت برك الماء متوزعة على حواف الطريق ، أطراف فيصل متجمدة ، شفتاه مزّرقتان  ، وعيناه قد جفتا ، وهو لا يشعر ، إنه كالطفل الضائع الذي فقد والديه لا يعرف إلى أين يأوي؟ وإلى من يلجأ ؟. ذلك  الصباح كان هادئاً للغاية ، بل و باهتاً دون شمس ، و حزيناً جداً لما حدث ليلة البارحة من سفك دماء .
و أخيراً قد مرت سيارة أجرة قديمة بجانبه ، دعاه صاحبها للركوب ، ليحتمي من ذلك البرد القارس ، و كقطعة ثلج ، و وجهٍ دون تعابير ركب فيصل تلك السيارة التي انطلقت ببطئ . صاحب المركبة عجوز في سن الخمسين ، مبتسمٌ دايماً رغم فقده لأسنانه الأمامية، ورغم ظروفه الصعبه التي علت ملامح وجهه . و بدأ العجوز يحدث فيصل و يحكي له عن هذه الحياة وعن تجاربه و يستخبره عن أحواله !! ، أما عجوز العشرين فلم يكن يجيب على سائق المركبة ، كان شادر الذهن ، لم يكن يملك عقله أصلاً ، كان يفكر بكل تلك الامور التي اقترفتها يديه ، بجريمته النكراء !! . جريمةٌ بشعة ، من أقذر الأعمال و امقتها بل واكبرها عند الله تعالى !!. يحدثه ضميره ويأنبه بقسوة ! ماذا فعلت يا فيصل ؟ ماذا فعلت ؟ ، بأي ذنب ٍ ساعدت على قتلهم ؟ قتلت أهلك يافيصل ! قتلت أهلك ! ، بالله عليك بأي طريقة استطاع ذلك الراهب أن يخدعكم ؟ انه ليس راهب بل هو كاذب ، صديقك الحميم محمد بالأمس لاقى مصرعه ، لابساً حزامه الناسف وسط أهله وأبناء عشيرته ، بين أهل داره و جيرانه ، في إحدى المجمعات . ظناً منه أنه سيقتل الكفار أعداء الدين وينسف تلك "الماركات" الدخيلة والتي هي لشركات اجنبية تنوي ادخال الفساد للمجتمع –كما تتدعون-  ، وأنت يا فيصل ! أنت من ربط له الحزام ، أنت من جهزته لتلك الليلة ، أنت كنت آخر من يحدثه و بإندفاع تقول له " مكانك الجنة يا شيخ " !!  أي جنة ؟ أي جنة التي سيخّلد فيها قاتل ؟ و اليوم تّدعي الحزن !؟ أي تناقضٍ هذا الذي تعيشه ؟ فيصل أنت وأمثالك لوثتم صورة الدين ! فلا دين يحثكم على الانتحار ، و لا دين يحثكم على قتل الأبرياء . فيصل ! أين كان عقلك حين كان يحاورك الراهب الكاذب ، حين كان يزين لك القتل ، و يشبهه بالاستشهاد ! ، حين كان يصف لك حور العين و العيون الجاريه و الأشجار ذات القطوف الدانية  ! يحكي لك عن النعيم و هو يقودك إلى الجحيم ! ، فيصل ماذا تظن نفسك ؟ داعية ؟ شيخ ؟ مجاهد ؟ مسلم ؟ لا ، لا ما أنت إلا إرهابّي تبيح قتل الأبرياء باسم  الدين ؟ فأي  جريمة أعظم من هذه ؟فمن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً ، فيصل لم يعد لم مكانٌ هنا ! لا مكان للإرهاب في هذا البلد لا مكان للخداع  لا مكان للكذب لا مكان لأمثالك يا فيصل !! .
وعلى ذلك الخد الجاف ، البارد تنساب دمعةٌ حارقة من عيني فيصل ، دمعة مليئة بالندم ، دمعة راجية للتوبة . يقطع هذا الصمت الأليم صوت العجوز
- " بني لم تخبرني إلى أين تريد الذهاب ؟ "
 وبصوت مخنوق مرتجف - "إلى مركز الشرطة !!" .



تمت 
جميع الحقوق محفوظة 
لـ / أسماء سالم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق