استيقظ أخيراً من
غفلته , وها هو يغسل وجهه بماء الواقع و الندم , ليمحو معالم الخداع و يزيل مساحيق
الزيف و الكذب ، الذي وضعها له أولئك المنافقون ، ها هو ذا ينفض غبار التخلف من
على وجهه ذو المعالم الشقية التي اختفت منها ملامح السماحه ، بهدوء تام وفي حالة
ذهول مثير للقشعريرة ، تقدم "فيصل" نحو خزانته و اختار ثوباً ذا لونٍ
قاتم ، و ارتداه بهدوءٍ مريب ، وحدق في المراءة لبرهة ثم خرج من شقته ، بوجهه
الشاحب و عينين جاحظتين .
رغم صغر سنه إلى أن
لحية ذقنه التي لم يحلقها منذ أيام ، ومعالم وجهه المصعوقة من حادثة البارحة ، أظهرته كرجل أربعينيّ ،
كـكهلٍ عقه أبنائه في قارعة الطريق . البرد ينهش عظامه ولكنه لم يعد يشعر !! وكيف له
أن يشعر بعد الجريمة التي ساعد في ارتكابها ، ماذا يفعل ؟ أين المناص ؟ أين المفر
؟ ها هو اليوم يدرك الحقيقة التي قد عميت عينيه عنها !! . أنه اليوم مجرم !، و
بالأمس مجرم ! ، وما قبله مجرم ! لكن ماذا عن الغد ؟ هل سيظل يرتكب جرائمه طوال
حياته ؟ هل سيساعد في نشر الفساد وتشويه صورة الدين ، لحساب أولئك الذين يريدون
تدمير الوحدة الإسلامية ؟! ، فيصل اليوم ينزف ! فحادثة الأمس جرحته جرحاً بليغاً ، بل
وعذبته عذاباً شديداً !! . كان يشعر بأن غرفته هي قبره وكأنه يشعر بما يمر
به صديقه الذي جازف بحياته ورمى بنفسه إلى التهلكة ، وقتل معه عمداً عشرات
الأبرياء .
الشارع باردٌ جداً
مازالت برك الماء متوزعة على حواف الطريق ، أطراف فيصل متجمدة ، شفتاه مزّرقتان ، وعيناه قد جفتا ، وهو لا يشعر ، إنه كالطفل
الضائع الذي فقد والديه لا يعرف إلى أين يأوي؟ وإلى من يلجأ ؟. ذلك الصباح كان هادئاً للغاية ، بل و باهتاً دون
شمس ، و حزيناً جداً لما حدث ليلة البارحة من سفك دماء .
و أخيراً قد مرت
سيارة أجرة قديمة بجانبه ، دعاه صاحبها للركوب ، ليحتمي من ذلك البرد القارس ، و
كقطعة ثلج ، و وجهٍ دون تعابير ركب فيصل تلك السيارة التي انطلقت ببطئ . صاحب المركبة
عجوز في سن الخمسين ، مبتسمٌ دايماً رغم فقده لأسنانه الأمامية، ورغم ظروفه الصعبه
التي علت ملامح وجهه . و بدأ العجوز يحدث فيصل و يحكي له عن هذه الحياة وعن تجاربه
و يستخبره عن أحواله !! ، أما عجوز العشرين فلم يكن يجيب على سائق المركبة ، كان
شادر الذهن ، لم يكن يملك عقله أصلاً ، كان يفكر بكل تلك الامور التي اقترفتها يديه
، بجريمته النكراء !! . جريمةٌ بشعة ، من أقذر الأعمال و امقتها بل واكبرها عند
الله تعالى !!. يحدثه ضميره ويأنبه بقسوة ! ماذا فعلت يا فيصل ؟ ماذا فعلت ؟ ، بأي
ذنب ٍ ساعدت على قتلهم ؟ قتلت أهلك يافيصل ! قتلت أهلك ! ، بالله عليك بأي طريقة
استطاع ذلك الراهب أن يخدعكم ؟ انه ليس راهب بل هو كاذب ، صديقك الحميم محمد
بالأمس لاقى مصرعه ، لابساً حزامه الناسف وسط أهله وأبناء عشيرته ، بين أهل داره و
جيرانه ، في إحدى المجمعات . ظناً منه أنه سيقتل الكفار أعداء الدين وينسف تلك
"الماركات" الدخيلة والتي هي لشركات اجنبية تنوي ادخال الفساد للمجتمع –كما
تتدعون- ، وأنت يا فيصل ! أنت من ربط له
الحزام ، أنت من جهزته لتلك الليلة ، أنت كنت آخر من يحدثه و بإندفاع تقول له
" مكانك الجنة يا شيخ " !! أي
جنة ؟ أي جنة التي سيخّلد فيها قاتل ؟ و اليوم تّدعي الحزن !؟ أي تناقضٍ هذا الذي
تعيشه ؟ فيصل أنت وأمثالك لوثتم صورة الدين ! فلا دين يحثكم على الانتحار ، و لا
دين يحثكم على قتل الأبرياء . فيصل ! أين كان عقلك حين كان يحاورك الراهب الكاذب ،
حين كان يزين لك القتل ، و يشبهه بالاستشهاد ! ، حين كان يصف لك حور العين و
العيون الجاريه و الأشجار ذات القطوف الدانية
! يحكي لك عن النعيم و هو يقودك إلى الجحيم ! ، فيصل ماذا تظن نفسك ؟ داعية
؟ شيخ ؟ مجاهد ؟ مسلم ؟ لا ، لا ما أنت إلا إرهابّي تبيح قتل الأبرياء باسم الدين ؟ فأي
جريمة أعظم من هذه ؟فمن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً ، فيصل
لم يعد لم مكانٌ هنا ! لا مكان للإرهاب في هذا البلد لا مكان للخداع لا مكان للكذب لا مكان لأمثالك يا فيصل !! .
وعلى ذلك الخد الجاف
، البارد تنساب دمعةٌ حارقة من عيني فيصل ، دمعة مليئة بالندم ، دمعة راجية للتوبة
. يقطع هذا الصمت الأليم صوت العجوز
- " بني لم
تخبرني إلى أين تريد الذهاب ؟ "
وبصوت مخنوق مرتجف - "إلى مركز الشرطة
!!" .
تمت
جميع الحقوق محفوظة
لـ / أسماء سالم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق